موقعي
هام جدا لصناع المحتوى
أفتح قناتك معنا وتعرف على وسائل الربح
ادخل هنا

تينة خانقة

شاكر المغربي avatar   
شاكر المغربي
فصل من رواية بيت جدي للكاتب الروائي شاكر المغربي

تينة خانقة

كنا ثلاثة، أنا وأخي وابن عمي، ومعنا طفل صغير يحمله أخي، وعلى الرغم من أننا أنا وأخي مازلنا شبابا، لم نتزوج بعد، إلا أن الطفل كان يشبهني كأنه ابني، ويشبه أخي كأنه ابنه، عبرنا سويا الكوبري الخرساني العريض، فوق الترعة التي تقسم قريتنا إلى نصفين، نصف شرقي، لا يسكنه سوى بعض العائلات، ونصف غربي، تسكنه الفروع الفقيرة من هذه العائلات، أو من أتى من أي بلد، ليتخذ من قريتنا سكنا أو ملاذا، في نهاية النصف الشرقي من ناحية الجنوب، توجد الوحدة الصحية، ومقهى قديم، بينهما طريق ترابي، ينحرف قليلا ناحية الجنوب الشرقي، طوله قرابة الخمس مائة متر، على جانبه الأيمن قناة ريّ، تفصله عن أرض زراعية ليست كبيرة، تنتهي عند طريق الترعة، وعن يساره مصرف مياه الريّ، الذي يفصله عن أرض زراعية، ممتدة إلى ما بعد مرمى البصر، في نهاية الطريق الترابي، توجد الجبانة، التي تفصل بين قريتنا، ووقف زينب هانم وقرية حامد التي تقسمها الترعة أيضا إلى نصفين. كنا في طريقنا إلى بيت جدي، وعند أول الشارع الكبير المؤدي إلى حارتنا، حيث تضيق الشوارع، فلا تكون المسافة بين البيت والبيت، على أقصى تقدير، سوى مترين ونصف، وفي أماكن أخرى، تكون المسافة أقل من متر، لشارع مغلق يسمى "زقّة"، يتخذها أصحاب بيتين أو ثلاثة بيوت مدخلا لهم، وبيت جدي الذي مازال على هيئته القديمة، يقع في منتصف الحارة تقريبا، بابه من جهة الجنوب، في مواجهة باب الحاج إبراهيم الراعي، صاحب دكان البقالة، الذي فتحه في حجرة صغيرة، يطل شباكها الواطئ على الشارع، يبيع لزبائنه من خلاله السكر والشاي والدقيق الأبيض وبهارات الطبيخ، وغيرها من لوازم البيت، أو ما يُرغّب العيال في الشراء، من كرملّة وبسكويت ولبّ سوري، وكذلك الشكلّمة، التي يعود طعمها إلى فمي وحلقي كلما ذكرت اسمها، وهي عبارة عن أقراص صغيرة مثل الكحك، تتكون عجينتها من دقيق أبيض، معجون بزيت قليل، مع ماء به ذرات من النشادر والفانيليا، ثم يضاف إلى العجين، بعد أن يعجن ويشتد قوامه سكر خشن، يُخلط بالعجين كما هو، ثم يُترك العجين قليلا، قبل أن تُصنع منه أقراص صغيرة، وتوضع في الفرن على نار هادئة، كي لا تحترق من السكر.

تزوج أبي، وعمي الكبير سعيد، في بيت العائلة، بيت جدي، وانتقل عمي الصغير جمال، إلى العيش في عشة صنعها من البوص والغاب، في الجهة الأخرى من قضيب الديزل القديم، عند أوّل أرض المجنونة شمال قريتنا، بعد أن طرده عمي من البيت، لسوء تصرفاته وأخلاقه، وذلك بعد وفاة أبي، الذي كان يحميه قليلا، طمعا في عودته عن طريق اتخذه لنفسه. عند أول الشارع، سقطنا فجأة في حفرة لم نتبين وجودها، في تلك الليلة شبه المقمرة، فالقمر مازال في ثلثه الأول، بين الهلال والبدر، ولا ندري متى وجدت هذه الحفرة أصلا، لم تكن الحفرة عميقة، ولكن قعرها كان يشبه بحر الرمال المتحركة، نغوص فيه شيئا فشيئا، صرخنا ثلاثتنا طلبا للنجاة، فيما بكى الطفل الصغير من صراخنا، وإذا بيد بيضاء تمتد لتسحبنا، كانت يدا لرجل أبيض طويل القامة أعرفه جيدا، فقد كان جارا لنا، إنه الأستاذ مسعود عبد السميع الشرقاوي، مدرس الحساب في مدرسة ابتدائية في المدينة، والذي أتى إلى قريتنا قبل مولدي بعشرة أعوام، هو وزوجته وابنه الكبير حسن، بعد أن تم نقله إلى هذه المدرسة، وسكن بالإيجار لفترة في المدينة، قبل أن يشتري قطعة أرض خالية، -كانت جزءا من بيت العائلة شرق بيت جدي يطل على الترعة- ويبني عليها بيتا من دور واحد، له باب من ناحية الترعة، ثم رفع فوقه ثلاثة أدوار أخرى مع مرور الوقت لأبنائه الثلاثة، فقد أنجب ولدين غير حسن، ومنذ أن وعيت على العالم، وأنا أراه يخرج من بيته كل صباح، هو وأبنائه ولا يعود إلا قرب العصر، ليظل في بيته لصباح اليوم التالي، لا يخرج هو أو أي من أبنائه، إلا لشراء حاجة ضرورية، أو لصلاة الجمعة، أما الأعياد فقد كان يختفي من القرية قبلها بيومين هو وعائلته، ولا يظهرون إلا بعد العيد بثلاثة أيام أو أربعة. كان الأستاذ مسعود، يعود كل يوم محملا بأكياس سوداء، لا أحد يعلم ما فيها، يربطها بسير طويل، - مقطوع من شنبر دراجة قديم- على الكرسي الخلفي لدراجته العالية، ويركب أمامه ابنه الصغير محمد، فيما يركب حسن دراجة أخرى وأمامه رؤوف، فلم يكن للأستاذ مسعود عائلة في قريتنا، سوى أبنائه الثلاثة، الذين اختلفوا، وتعاركوا بعد موته على الميراث، فقد مات الأستاذ مسعود قبل وقوعنا في الحفرة بخمس سنوات، وهجر أبناؤه القرية، إلا ولده الأصغر محمد، فكان قد تزوج بعد موت أبيه بثلاثة أعوام من فاطمة الراعي، الأخت الوحيدة لتوفيق الراعي، زوج سومة الغازي، وقد ساعده الحاج سيد الغازي أبو سومة، في خلافه مع أخوته، وكما ساعده في هدم البيت وإعادة البناء، ولا أدري، كيف قام الأستاذ مسعود، الذي عهدته في أيامه الأخيرة قبل موته، يجلس على كرسي أمام باب بيته بعد أن خرج على المعاش المبكر، حين اشتد عليه المرض، تملأ وجهه تجاعيد كثيرة، ينظر إلى لا شيء، وبالذات بعد موت زوجته، والخلافات التي نشأت بين أبناءه الثلاث، حول أحقيتهم في معاش أبيهم، الذي سوّى معاشه وهو على درجة مدير، فأبنه الكبير حسن، كان يعمل مدرسا أيضا في المدينة، بعد أن تخرج مثل أبيه من مدرسة المعلمين، وقد قدم طلبا لنقله إلى مدرسة في محافظة الشرقية، موطن أبيه الأصلي، وكان ذلك بسبب كثرة إلحاح زوجته وأم عياله، بحجة أنهم ليس لهم في قريتنا ولا مدينتنا كلها أحد، وبالذات بعد أن اختلف مع أخوته، والأفضل للعيال أن يتربوا وسط أهلهم هناك، فهي على حد علمنا من أحد أقاربه، وربما كانت أول من أشعل الفتنة بينه وبين أخوته، فقد كانت تقول لجارتها نجلاء الراعي، حين تطلع على السطح لتطعم طيورها أو تنشر الغسيل، فيتصادف وجود نجلاء على سطح بيتها، الملاصق لهم من جهة الشمال، فتقف نجلاء ساندة بذراعيها على السور، تتحدث معها كعادة النسوة في قريتنا، بألا يتركن فرصة للحديث عن أسرار البيوت إلا واغتنمنها، وقد بدأت ذلك منذ قدوم زوجة حسن وهي عروس جديدة، فصارت تتودد إليها حتى أصبحت سعاد تفضي لها بكل أسرار البيت، وكعادة نجلاء مثل كل النسوة في الجلوس على عتبات البيوت بعد العصر، أو أمام فرن الخبيز عند إحدى الجارات، نقلت كل ما يدور بينها وبين سعاد زوجة حسن، منبهة كل من تخبرها أن هذا سر، حتى صارت القرية كلها تكتم سرّ سعاد ونجلاء، وقد قالت سعاد ذات مرة، أنها تكره هذه القرية، ليس لأهلها -قالت ذلك ربما خوفا من غضب صديقتها نجلاء- إنما لشعورها الدائم بالغربة، فقد كانت في قريتها التي تقع في محافظة الشرقية دائمة الخروج، والزيارات للأهل والجيران والأصحاب، وهي هنا محبوسة بين أربعة حيطان، ليس لها صاحبة ولا قريبة تزورها، غير هذه الجلسات القليلة مع نجلاء على السطح، وقالت أن زوجها حسن لا يسمح لها بالخروج أبدا، فهو لا يحب الاختلاط بالغرباء، فهكذا رباه أبوه الأستاذ مسعود، الذي كان يخشى عليهم من الناس، ولذلك زوجه من سعاد ابنة عمه، ولم يزوجه من أي بنت من قريتنا، ولكنه لم يستطع فعل ذلك مع رؤوف ومحمد، فلم تكن هناك فتاة مناسبة جاهزة في العائلة لأي منهما، أما ابنه الأوسط رؤوف، فقد انتقل هو الأخر بعد موت أبيه، ولكن إلى مدينة دمياط، فقد كان موظفا في مصلحة الضرائب، وزوجته ابنة موظف كبير معه في المصلحة، تزوجها ليس حبا فيها، وإنما رغبة في كسب رضا والدها، فله علاقات كثيرة ستنفعه في المستقبل، وكما قالت سعاد أيضا، أن رؤوف يكره طباع زوجته، التي تربت ونشأت في المدينة، على كثرة الخروج والزيارات واللبس على الموضة.

 وربما لم تكن سعاد هي السبب في الخلافات التي نشبت بين الأخوة، فربما كان الأستاذ مسعود نفسه هو السبب، حين فعل مع أبناءه ما تفعله شجرة التين الخانقة، التي تلتف حول جذع شجرة شابة، وما تلبث أن تمتد جذورها حولها حتى تخنقها وتحل مكانها، وقد زرع في أبناءه نفس الصفة، حتى صاروا مثل التينة الخانقة، وغرسوا بذورهم التي انفجرت من خنقة أبيهم، والتفوا حوله ليمتصوا جذوره حتى مات. مدّ الأستاذ مسعود -أو ربما هيئ لي الخوف ذلك- يده المبسوطة ليسحبنا من الحفرة، وكأنه بعد موته، رأى ما كان، وتشوّف ما سيكون، فأراد أن يسحبني من تلك الحفرة، التي بدأت أغوص فيها منذ ذلك اليوم، وربما لو كنت وقتها استطعت قراءة الرسالة، لكنت الآن في غير الحال. كنت أول من خرج من الحفرة، ثم الطفل، ثم أخي، ثم ابن عمي، انحنيت وأمسكت بيدي اليسرى يد الطفل، ورفعت رأسي مبتسما، وأنا أمد يدي اليمنى للأستاذ مسعود، لأشكره على إخراجنا من الحفرة فلم أجده. سرنا وقد تملك الرعب منا، وظل الطفل يبكي، ولم نستطع إسكاته من رعبنا، حتى وصلنا عند الطرنبة القريبة من الحفرة، بجوار البيت المهجور، فغسلت للطفل يديه ووجهه، ومسحت ما علق بملابسه من طين، ثم غسلت وجهي وقدمي، وبنطلوني الجينز الملطخ بالطين حتى ركبتي، كما فعل ذلك أخي وابن عمي، وعاد أخي يحمل الطفل وقد هدأ بكاءه، إلا من حشرجة مكتومة، وهدأت نفوسنا قليلا، وسرنا حتى وصلنا إلى البيت، وما إن دخلنا، حتى نزل الطفل واختفى داخل البيت، وأكدت لزوجة عمي دون أن نحكي لها ما حدث، أننا لم نترك بيتا إلا وطرقنا بابه ودعونا أهله، ثم جلس أخي وابن عمي في مواجهة باب حجرة، فيما كان ظهري لها، كان في الحجرة بعض نساء العائلة، ونساء وبنات الجيران، يقمن بتجهيز بعض الأشياء لشوار ابنة عمي في اليوم التالي، وإذا بابن عمي يوجه إليهن الكلام بصوت غاضب، بعد أن سمعنا صوت شيء ينكسر، ولم ألتفت إلى الصوت، كان طقم كاسات غالي وقع من يد أختي، هكذا فهمت من كلامه، فصرخت في وجهه معترضا على غضبه، أنه ليس من حقه التدخل في شؤن النسوة، وأن ما انكسر أخذ الشر وراح، وأنا على علم وإيمان كامل بأن الشر لا يروح. نظرت بطرف عيني إلى زوجتي، التي مازالت تصرخ، والشر والشرر يتطايران من عينيها، ورذاذ الغضب يندفع مع الصراخ من فمها، وأنا أسأل نفسي أيٌّ منّا كان تينة خانقة.

 

 

 

 

 

شاكر المغربي
أين القراء
0 0 Reply
manal Elbaroudy
manal Elbaroudy 3 days ago
جميلة جدا بالتوفيق
1 0 Reply
شاكر المغربي

تسلمي

1 0 Reply
Show more