HYLPRESS

النذر

شاكر المغربي avatar   
شاكر المغربي
قصة قصيرة بقلم شاكر المغربي <br>شاعر وروائي عضو اتحاد كتاب مصر

النذر

للمرة الأولى في حياتي أراه بالمقلوب.

كان ذلك حين راهنت العيال على أنّي أستطيع أن أقلب الأرجوحة عشر قلبات دون توقف، عند القلبة الثانية، وحين صارت رأسي لأسفل رأيته، هو وكثير من رجال بلدتنا يصطفّون في دائرة كبيرة، عل أحد أطرافها شيخٌ فوق رأسه عمامة عظيمة، يجلس على كرسي عريض وعالي، وكأنّه ملك يجلس على عرشه، وسط الدائرة سارٍ خشبي طويل، في نهايته راية سوداء بلا كتابةٍ عليها، بخلاف الرايات التي يطوفون بها البلدة نهارا، فقد كانت سوداء مكتوب عليها أسماء لأشخاص لا أعرفهم، حول الساري، يجلس الرجال الطاعنون في السن؛ الذين لا يستطيعون الوقوف كثيرا، يهزّون رؤوسهم وأبدانهم مع الواقفين مرددين جميعا في صوت واحد ( حي)، فيما الشيخ الجالس على عرشه بصوته الجهوري الجاذب للأسماع عبر مكبرات الصوت والذي يصل إلى كل البيوت، يردد بعض الأناشيد التي يمدح فيها رسول الله وآل بيته وأولياء الله ممن كتبت أسمائهم على الرايات.

عند القلبة التاسعة خسرت الرهان، فقد رأيته للمرة الأولى يسقط مغشيا عليه، أوقفت الأرجوحة، ونزلت مسرعا ناحيته مخترقا حلقة الذكر، فلم أجد أحدا اهتم بسقوطه، وأخذ يبخ في وجهه الماء سوى الشيخ محمد قلاويزو، الذي على الرغم من كبر سنه فقد كان قصير القامة، حتى أنّ طوله لا يتخطى طولي إلا بسنتيمترات قليلة، لم يكن شيخا، ولكنّا أعتدنا أن نناديه بالشيخ، أما قلاويزو، فهي صفة أطلقها العيال عليه، وكانوا كثيرا ما يزفونه مرددين ( الشيخ محمد قلاويزو نط الكلب لحس .......) وكنت أستحي أن أردد ذلك معهم، حتى عندما كان ينام أبي على بطنه المنتفخة من تضخم في الطحال، طالبا منّي أن أدلّك له جسده، وكان يزجرني لأني اتخطى ذلك الجزء دون تدليك.

لم أكن أعرف عملا للشيخ محمد إلا في هذه الأيام الثلاث، حيث يحمل على بطنه طبلة ضخمة، معلّقة على كتفيه بحبلين عريضين، ويمسك في كلتا يديه بعصا خشبية تشبه ( النشابة ) التي تفرد أمي بها العجين قبل أن تضعه في الفرن المصنوع من الطين، في طرف كل عصا كرة مطاطية، يدقّ بها على جانبي الطبلة، وهو يسير في مقدمة السائرين نهارا يحملون الرايات، معلنين عن موعد الاحتفال بمولد صاحب المقام.

حين أفاق أبي مع حركات تشنّج خفيفة، مد ذراعيه ناحيتنا لنوقفه، ثم استند على كتفي الصغير حتى عدنا إلى البيت.

دخل أبي إلى الحجرة مباشرة بمساعدة أمي، التي حين علمت بما حدث، ظهر عليها التوتر والقلق، وهي تساعده على اعتلاء سريره المعدني، الذي كنا نستدفأ تحته ملتحفين بأجولة من الخيش، مفترشين الأرض الطينية بأجولة أخرى معبأة بقش الأرز، وظلّت بجواره حتى راح في النوم، إلا من سعاله الذي اعتدنا على سماعه، وسماع صوته وهو يبصق في جردل معدني بجوار السرير ملئ لنصفه بالرمل.

كنت وأخوتي ننتظرها في صمت، على الرغم من القلق الذي بدا في وجوه الجميع، وقد طافت وقتها برأسي أسئلة كثيرة عن صاحب المقام، ولمّا خرجت علينا بابتسامتها الحانية بعثت في قلوبنا الطمأنينة، وبدأت تحكي لنا - بصوت خفيض حتى لا تزعج أبي - حين سألتها، أنّها سمعت، أنّه صاحب كرامات، وأنه واحد من أربعين أخا ماتوا جميعا في وقت واحد، ربما في إحدى الحروب لا تدري، وعندما ذهب الناس ليكفنوهم، طارت أجسادهم في الهواء تبحث عن أماكن طاهرة مباركة لترقد فيها بسلام، وكان هو من نصيب بلدتنا، التي حين كبرت لم ترى فيها طهرا ولا بركة، إلا نزاعات على مواريث، وآكل مال اليتيم بين الأغنياء، وصراعات على لقمة العيش بين الفقراء.

في اليوم التالي، تسللت من البيت فيما أبي مازال نائما، وذهبت إلى حيث يرقد صاحب المقام، دخلت وسط النسوة اللاتي أتين ليطفن حوله وهن يتمتمن بكلمات عن الزوج، والرزق، والعيال، والبركة، كان المقام عبارة عن قبة عالية، مغطاة بكسوة من قماش أخضر سميك، تظنّ حين تراه أنّ صاحبه ربما دفن واقفا.

أخذت أدور مع النسوة غير فاهم لما يقلنه أو يفعلنه، حتى رأيت امرأة متشحة بالسواد، تقف عند الشباك الحديدي من الخارج، وتمد يدها ناحية صندوق النذور المثبت على الشباك من الداخل، ولا أدري لماذا ارتبكت حين رأتني، و قد بدا ذلك من يدها المهتزة و هي تحاول أن تضع النذر في فتحة أعلى الصندوق حتى أنّها تركته و اختفت مسرعة

عندما اقتربت من الصندوق و أنا أدور مع النسوة أخذت أشب برأسي لأرى ما الذي تركته كان عشرة قروش فضية قطعة واحدة و قد كان أبي بين الحين و الحين قليلا ما يعطيني تعريفة أشتري بها ما لذ و طاب

درت مرتين مع النسوة قبل أن أقف عند الصندوق أتحيّن الفرصة التي أمد فيها يدي لأحصل عليها و كلما هممت بذلك أتذكر ما قالته أمي عن اللص الذي التصقت يده بالصندوق فاضطر الناس لقطعها لأنه رفض أن يتوسل لصاحب المقام كي يغفر له فتفك يده

في قرارة نفسي قررت أن أكون أذكى من ذلك اللص و أخطف العشر قروش بأقصى سرعة ممكنه و لكنّي لم أستطع الإمساك بها فقد انفلتت من سرعت يدي و جرت مختبئة منّي خلف الكسوة الخضراء فصارت أرجل النسوة حائلا بيني و بين الوصول أليها

جلست ساندا ظهري إلى الحائط عند الزاوية القريبة منها أنتظر أن تذهب النسوة كل إلى حالها حتى أستطيع الحصول عليها لم انتبه إلا و يد الشيخ محمد تربط على كتفي قائلا أصحى لقد حان وقت إغلاق المقام

 

 

 

 

01276432002
01276432002 منذ 1 شهر
حلو
0 0 الرد
manal Elbaroudy
manal Elbaroudy منذ 1 شهر
فكرتني المقال دي بحكاية مثل إحنا دفنينو سوا
0 0 الرد
manal Elbaroudy
manal Elbaroudy منذ 1 شهر
كان مصمم أنه يسرق لكن الله لم يرضى له المهانة
0 0 الرد
شاكر المغربي
شاكر المغربي منذ 1 شهر
اين القراء
1 0 الرد
manal Elbaroudy
manal Elbaroudy منذ 1 شهر

التفاعل ضعيف اوي للأسف على الفيديوهات ومعدوم على المقالات

0 0 الرد
manal Elbaroudy
manal Elbaroudy منذ 1 شهر

أنا عندي ثلاث مقالات ومش شايفة تفاعل أيضا

0 0 الرد
أظهر المزيد